فصل: باب مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


الجزء الخامس

بسم الله الرحمن الرحيم

كِتَاب الْجِهَادِ

فَضْلِ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏والحافظون لحدود الله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏‏.‏

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ الْحُدُودُ الطَّاعَةُ‏.‏- فيه‏:‏ ابْن مَسْعُود، سَأَلْتُ الرسول، صلى الله عليه وسلم قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏الصَّلاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا‏)‏، قُلْتُ‏:‏ ثُمَّ أَيٌّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ‏)‏، قُلْتُ‏:‏ ثُمَّ أَىٌّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ‏)‏، فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِى‏.‏- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، فَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا‏)‏‏.‏- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، نرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلا نُجَاهِدُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏لَكُنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ‏)‏‏.‏- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ دُلَّنِى عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ، قَالَ‏:‏ لا أَجِدُهُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلا تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلا تُفْطِرَ،‏؟‏ قَالَ‏:‏ وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ‏؟‏ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِى طِوَلِهِ، فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ‏.‏

قال الطبرى‏:‏ معنى حديث ابن مسعود أن الصلاة المفروضة وبر الوالدين والجهاد فى سبيل الله أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله ورسوله، وذلك أن من ضيع الصلاة المفروضة، حتى خرج وقتها لغير عذر فقدرته مع خفة مؤنتها وعظم فضلها فهو لا شك لغيرها من أمر الدين والإسلام أشد تضيعاَ، وبه أشد تهاوناَ واستخفافاَ، وكذلك من ترك بر والديه وضيع حقوقهما مع عظيم حقهما عليه بتربيتهما إياه، وتقطعهما عليه، ورفقهما به صغيرًا وإحسا نهما إليه كثيراَ، وخالف أمر الله ووصيته إياه فيهما، فهو لغير ذلك من حقوق الله أشد تضييعًا، وكذلك من ترك جهاد أهداء الله، وخالف أمره فى قتالهم مع كفرهم بالله ومناصبتهم أنبياءه وأولياءه للحرب، فهو لجهاد من دونهم من فساق أهل التوحيد ومحاربة من سواهم من أهل الزيغ والنفاق أشد تركًا، فهذه الأمور الثلاثه تجمع المحافظة عليهن الدلالة لمن حافظهن أنه محافظ على ما سواهن، ويجمع تضييعهن الدلالة على تضييع ما سواهن من أمر الدين والإسلام فلذلك خصهن صلى الله عليه وسلم بأنهن أفضل الأعمال‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما الهجرة فكانت فرضا فى أول الإسلام على من أسلم، لقلتهم وحاجتهم إلى الاجتماع والتأليف، فلما فتح الله مكة دخل الناس فى دين الله أفواجا سقط فرض الهجرة، وبقى فرض الجهاد والنية على من قام به أو أنزل به عدو، والله جعل الحج أفضل للنساء من الجهاد لقلة غنائهن فى الجهاد، وفى حديث أبى هريرة أن المجاهد على كل أحواله يكتب له ما يكتب للمتعبد فالجهاد أفضل من التنفل بالصلاة والصيام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ليستن فى طوله‏)‏ يعنى ليأخذ فى السنن على وجه واحد ماضيا وهو يفتعل من السنن ويقال‏:‏ فلان يستن الريح والسيل إذا كان على جهتها وممرها، وأهل الحجاز يقولون‏:‏ سُنن بضم السين وفى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيقتلون ويقتلون ‏(‏دليل على أن القاتل والمقتول فى سبيل الله جميعا فى الجنة‏.‏

وقال بعض الصحابة‏:‏ ‏(‏ما أبالى قتلت فى سبيل الله أو قتلت‏)‏ وتلا هذه الآية وهذا يرد على الشعبى أن الغالب فى سبيل الله أعظم أجرًا من المقتول‏.‏

باب أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ مُجَاهِدٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ

وقوله‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ‏}‏ الآية‏.‏- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، قَالَ‏:‏ قِيلَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ النَّاسِ أَفْضَلُ‏؟‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مُؤْمِنٌ فِى شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِى اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ‏)‏‏.‏- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِهِ- كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ ويُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه فضل الغنى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أى الناس أفضل‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ مؤمن يجاهد فى سبيل الله‏)‏ ليس على عمومه ولا يريد أنه أفضل الناس قاطبة؛ لأن أفضل منه من أوتى منازل الصديقين، وحمل الناس على شرائع الله وسنن نبيه، وقادم إلى الخيرات، وسبب لهم أسباب المنفعة فى الدين والدنيا، لكن إنما أراد صلى الله عليه وسلم والله أعلم أفضل أحوال عامة الناس؛ لأنه قد يكون فى خاصتهم من أهل الدين والعلم والفضل والضبط بالسنن من هو أفضل منه‏.‏

وقوله فى حديث أبى هريرة‏:‏ ‏(‏والله أعلم بمن يجاهد فى سبيله‏)‏ يريد والله أعلم بعقد نيته إن كانت لله خالصة وإعلاء كلمته، فذلك المجاهد فى سبيل الله، وإن كان فى نيته حب المال والدنيا واكتساب الذكر فيها فقد شرك مع سبيل الله سبيل الدنيا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كمثل الصائم القائم‏)‏ يدل أن حركات المجاهد ونومه ويقظته حسنات، وإنما مثله بالصائم؛ لأن الصائم ممسك لنفسه عن الأكل واللذات، وكذلك المجاهد ممسك لنفسه على محارسة العدو، وحابس نفسه على مراعاته ومقابلتة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏مع ما نال من أجر أو غنيمة‏)‏ إنما أدخل ‏(‏أو‏)‏ هاهنا؛ لأنه قد يرجع مرة بالأجر وحده، وقد يرجع أخرى بالأجر والغنيمة جميعًا، فأدخل ‏(‏أو‏)‏ لتدل على اختلاف الحالين، لا أنه يرجع بغنيمة دون أجر، بل أبدًا يرجع بالأجر كانت غنيمة أو لم تكن‏.‏

قال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ تفاضلهم فى الأجر وتساويهم فى الغنيمة دليل قاطع أن الأجر يستحقونه لقتالهم، فيكون أجر كل واحد على قدر عنائه، وأن الغنيمة لا يستحقونها بذلك لكن بتفضل الله عليهم ورحمته لهم بما رأى من ضعفهم، فلم يكن لأحد فضل على غيره إلا أن يفضله قاسم الغنيمة فينفله من رأسها، كما نفل أبا قتادة، أو من الخمس كما نفلهم فى حديث ابن عمر، والله يوتى فضله من يشاء‏.‏

وفيه فضل العزلة والانفراد عن الناس، والفرار عنهم ولا سيما فى زمن الفتن وفساد الناس، وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال؛ لأنها فى الأغلب مواضع الخلسة والانفراد، فكل موضع يبعد عن الناس، فهو داخل فى هذا المعنى كالمساجد والبيوت، وقد قال عقبة بن عامر‏:‏ ‏(‏ما النجاة يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك‏)‏‏.‏

باب الدُّعَاءِ بِالْجِهَادِ وَالشَّهَادَةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ

وَقَالَ عُمَرُ‏:‏ ‏[‏اللَّهُمَّ‏]‏ ارْزُقْنِى شَهَادَةً فِى بَلَدِ رَسُولِكَ‏.‏- فيه‏:‏ أَنَس، كَانَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، فَتُطْعِمُهُ، وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَطْعَمَتْهُ، وَجَعَلَتْ تَفْلِى رَأْسَهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ قُلْتُ‏:‏ وَمَا يُضْحِكُكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عُرِضُوا عَلَىَّ غُزَاةً فِى سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ، مُلُوكًا عَلَى الأسِرَّةِ- أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الأسِرَّةِ- شَكَّ إِسْحَاقُ- قَالَتْ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِى مِنْهمْ، فَدَعَا لَهَا، ثُمَّ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ‏:‏ وَمَا يُضْحِكُكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عُرِضُوا عَلَىَّ غُزَاةً فِى سَبِيلِ اللَّهِ‏)‏، كَمَا قَالَ فِى الأوَّلِ، قَالَتْ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِى مِنْهُمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَنْتِ مِنَ الأوَّلِينَ‏)‏، فَرَكِبَتِ الْبَحْرَ فِى زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِى سُفْيَانَ، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ، فَهَلَكَتْ‏.‏

قال المهلب‏:‏ كانت أم حرام خالة النبى صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فلذلك كان ينام فى حجرها، وتفلى رأسه‏.‏

قال غيره‏:‏ إنما كانت خالة لأبيه أو لجده؛ لأن أم عبد المطلب كانت من بنى النجار، وكان يأتيها زائرًا لها، والزيارة من صلة الرحم‏.‏

وفيه‏:‏ إباحة أكل ما قدمته المرأة إلى ضيفها من مال زوجها؛ لأن الأغلب أن ما فى البيت من الطعام هو للرجل‏.‏

وفيه أن الوكيل والمؤتمن إذا علم أنه يسر صاحب المنزل بما يفعله فى ماله جاز له فعل ذلك، ومعلوم أن عبادة كان يسره أكل رسول الله فى بيته‏.‏

واختلف العلماء فى عطية المرأة من مال زوجها بغير إذنه، وسيأتى ذلك فى موضعه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يركبون ثبج هذا البحر‏)‏ والثبج‏:‏ الظهر‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ الثبج‏:‏ أعلى متن الشيء‏.‏

وضحكه صلى الله عليه وسلم هو سرور منه، بما يدخله الله على أمته من الأجر، وما ينالوه من الخير، وإنما رآهم ملوكًا على الأسرة فى الجنة فى رؤياه، وفيه إباحة الجهاد للنساء فى البحر، وقد ترجم له بذلك بعد‏:‏ باب‏:‏ جهاد النساء، بعد هذا‏.‏

وقالت أم عطية‏:‏ ‏(‏كنا نغزوا مع النبى صلى الله عليه وسلم فنداوى الكلمى ونقوم على المرضى‏)‏ وفيه أن الجهاد تحت راية كل إمامٍ جائز ماض إلى يوم القيامة؛ لأنه رأى الآخرين ملوكًا على الأسرة كما رأى الأولين، ولا نهاية للآخرين إلى يوم القيامة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثلة من الأولين وثلة من الآخرين‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 39، 40‏]‏، وهذا الحديث من أعلام النبوة وذلك أنه أخبر فيه بضروب من الغيب قبل وقوعها، فمنها‏:‏ جهاد أمته فى البحر، وضحكه دليل على أن الله يفتح لهم ويغنمهم، ومنها‏:‏ الإخبار بصفة أحوالهم فى جهادهم وهو قوله‏:‏ ‏(‏يركبون ثبج هذا البحر ملوكًا على الأسرة‏)‏ ومنها قوله لأم حرام‏:‏ ‏(‏أنت من الأولين‏)‏ فكان كذلك، غزت مع زوجها فى أول غزوة كانت إلى الروم فى البحر مع معاوية‏.‏

وفيه‏:‏ هلكت، وهذا كله لا يعلم إلا بوحى من الله تعالى على ما أوحى إليه به فى نومه‏.‏

وفيه‏:‏ أن رؤيا الأنبياء وحى، وفيه ضحك المبشر إذا بشر بما يسره كما فعل صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه فضل معاوية- رحمه الله وأن الله قد بشر به نبيه فى النوم؛ لأنه أول من غزا فى البحر وجعل من غزا تحت رايته من الأولين‏.‏

وذكر أهل السير أن هذه الغزاة كانت فى زمن عثمان‏.‏

قال الزبير بن أبى بكر‏:‏ ركب معاوية البحر غازيًا بالمسلمين فى خلافة عثمان إلى قبرس ومعه أم حرام زوجة عبادة، فركبت بغلتها حين خرجت من السفينة فصرعت فماتت‏.‏

وقال ابن الكلبى‏:‏ كانت هذه الغزاة لمعاوية سنة ثمان وعشرين‏.‏

وفيه أن الموت فى سبيل الله شهادة‏.‏

وذكر ابن أبى شيبة، قال‏:‏ حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبى العجفاء السلمى قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ قال محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قتل فى سبيل الله أو مات فهو فى الجنة‏)‏‏.‏

باب دَرَجَاتِ الْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى

يُقَالُ‏:‏ هَذِا سَبِيلِى، وَهَذهِ سَبِيلِى‏.‏

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ‏:‏ ‏(‏غُزًّا ‏(‏‏:‏ وَاحِدُهَا غَازٍ،‏)‏ هُمْ دَرَجَاتٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 163‏]‏ لَهُمْ دَرَجَاتٌ‏.‏- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، جَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ جَلَسَ فِى أَرْضِهِ الَّتِى وُلِدَ فِيهَا‏)‏، قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا نُبَشِّرُ النَّاسَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ فِى الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ‏)‏‏.‏- وفيه‏:‏ سَمُرَةَ، قَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِى، فَصَعِدَا بِى الشَّجَرَةَ، فَأَدْخَلانِى دَارًا هِىَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، قَالا‏:‏ أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ، فَدَارُ الشُّهَدَاءِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ تستحق الجنة بالإيمان بالله ورسوله، وقد روى عن الرسول أنه قال‏:‏ ‏(‏ثمن الجنة لا إله إلا الله‏)‏ وبالشهادة والأعمال الصالحة تستحق الدرجات والمنازل فى الجنة وقوله‏:‏ ‏(‏وسط الجنة‏)‏ فيحتمل أن يريد موسطتها، والجنة قد حفت بها من كل جهة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أعلى الجنة‏)‏ يريد أرفعها؛ لأن الله تعالى مدح الجنات إذا كانت فى علو، فقال‏:‏ ‏(‏كمثل جنة ربوة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 265‏]‏، وقوله‏:‏ ‏(‏منها تفجر أنهار الجنة‏)‏ يريد أنها عالية من الارتفاع وقال المؤلف‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، جاهد فى سبيل الله أو جلس فى أرضه‏)‏ فيه تأنيس لمن حرم الجهاد فى سبيل الله، فإن له من الإيمان بالله والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنة؛ لأنها هى غاية الطالبين، ومن أجله تبذل النفوس فى الجهاد‏.‏

فلما قيل لرسول الله‏:‏ ‏(‏أفلا نبشر الناس‏)‏ أخبر صلى الله عليه وسلم بدرجات المجاهدين فى سبيله وفضيلتهم فى الجنة ليرغب أمته فى مجاهدة المشركين وإعلاء كلمة الإسلام، وهذا الحديث كان قبل فرض الزكاة والحج‏.‏

فلذلك لم يذكرا فيه والله أعلم‏.‏

وقد روى ابن وهب، عن عبد الرحمن بن شريح، عن سهل بن أبى أمامة بن سهل ابن حنيف، عن أبيه، عن جده، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه‏)‏ رواه حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن النبى صلى الله عليه وسلم، وحديث أبى هريرة شبه هذا المعنى؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى‏)‏ خطاب لجميع أمته يدخل فيه المجاهدون وغيرهم‏.‏

فدل ذلك أنه قد يعطى الله لمن لم يجاهد قريبًا من درجة المجاهد؛ لأن الفردوس إذا كان أعلى الجنة ولا درجة فوقه، وقد أمر صلى الله عليه وسلم جميع أمته بطلب الفردوس من الله؛ دل أن من بوأه الفردوس وإن لم يجاهد فقد تقارب درجته من درجات المجاهد فى العلو وإن اختلفت الدرجات فى الكثرة، والله يؤتى فضله من يشاء‏.‏

باب الْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَابِ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ

فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ النَّبِيّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَغَدْوَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَقَابُ قَوْسٍ فِى الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ‏)‏، قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏الغدوة والروحة خير من الدنيا‏)‏ يعنى خير من زمن الدنيا؛ لأن الغدوة والروحة فى زمن، فيقال‏:‏ إن ثواب هذا الزمن القليل فى الجنة خير من زمن الدنيا كلها، وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏لقاب قوس أحدكم‏)‏ أو ‏(‏موضع سوط فى الجنة‏)‏ يريد أن ما صغر فى الجنة من المواضع كلها من بساتينها وأرضها، فأخبر فى هذا الحديث أن قصير الزمان وصغير المكان فى الآخرة خير من طويل الزمان وكبير المكان فى الدنيا، تزهيدًا فيها وتصغيرًا لها وترغيبا فى الجهاد، إذا بالغدوة والروحة فيه أو مقدار قوس المجاهد يعطيه الله فى الآخرة أفضل من الدنيا وما فيها، فما ظنك بمن أتعب فيه نفسه وأنفق ماله‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ قاب القوس‏:‏ قدر طولها‏.‏

باب نزول الْحُورِ الْعِينِ وَصِفَتِهِنَّ

يُحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ شَدِيدَةُ سَوَادِ الْعَيْنِ شَدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ‏)‏ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عين‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 54‏]‏ أَنْكَحْنَاهُمْ‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِلا الشَّهِيدَ، لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى‏)‏‏.‏

- وَقَالَ أَنَس، عَنِ النَّبِىِّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ- أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ يَعْنِى سَوْطَهُ- مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأرْضِ لأضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلأتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما ذكر حديث أنس فى هذا الباب لأن المعنى الذى يتمنى الشهيد من أجله أن يرجع إلى الدنيا فيقتل هو مما يرى مما يعطى الله الشهيد من النعيم ويزوجه من الحور العين، وكل واحدة منهن لو اطلعت إلى الدنيا لأضاءت كلها، ليستزيد من كرامة الله وتنعيمه وفضله‏.‏

وفى ذلك حض على طلب الشهادة وترغيب فيها‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ إنما سمى الشهداء شهداء؛ لأنهم يشهدون ملكوت الله، واحدهم شهيد كما يقال عليم وعلماء، وكفيل وكفلاء، وقال ابن الأنبارى‏:‏ قال أبو العباس‏:‏ سمى الشهيد شهيدًا؛ لأن الله وملائكته شهود له بالجنة، وهو فعيل بتأويل مفعول‏.‏

مثل طبيخ وقدير بمعنى مطبوخ ومقدور‏.‏

وقيد الرمح‏:‏ قدره وقيسه، والنصيف‏:‏ الخمار من كتاب العين‏.‏

باب تَمَنِّى الشَّهَادَةِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْلا أَنَّ رِجَالا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّى، وَلا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّى أُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، خَطَبَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا يَسُرُّنَا أَنَّهُمْ عِنْدَنَا‏)‏، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ‏.‏

فيه من الفقه‏:‏ أن رسول الله كان يتمنى من أعمال الخير ما يعلم أنه لا يعطاه حرصًا منه صلى الله عليه وسلم على الوصول إلى أعلى درجات الشاكرين، وبذلا لنفسه فى مرضات ربه وإعلاء كلمة دينه، ورغبة فى الازدياد من ثواب ربه، ولتتأسى به أمته فى ذلك، وقد يثاب المرء على نيته، وسيأتى فى كتاب التمنى ما تمناه الصالحون مما لا يصل إلى كونه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏والذى نفسى بيده‏)‏ فيه إباحة اليمين بالله على كل ما يعتقده المرء مما يحتاج فيه إلى يمين، وما لا يحتاج، وكثيرًا كان صلى الله عليه وسلم يقول فى كلامه‏:‏ ‏(‏ومقلب القلوب‏)‏ لأن فى اليمين بالله توحيدًا وتعظيمًا له، وإنما يكره تعمد الحنث‏.‏

وفيه‏:‏ أن الجهاد ليس بفرض معين على كل أحد، ولو كان معينًا ما تخلف رسول الله، ولا أباح لغيره التخلف عنه ولو شق على أمته؛ إذ كانوا يطيعونه، هذا إذا كان العدو لم يفجأ المسلمين فى دارهم ولا ظهر عليهم وفيه‏:‏ أنه يجوز للإمام العالم ترك فعل الطاعة إذا لم يطق أصحابه ونصحاؤه على الإتيان بمثل ما يقدر هو عليه منها إلى وقت قدرة الجميع عليها وذلك من كرم الصحبة وأدب الأخلاق‏.‏

وفيه عظيم فضل الشهادة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وما يسرنا أنهم عندنا‏)‏ لعلمه بما صاروا إليه من رفيع المنزلة‏.‏

باب فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ فَهُوَ مِنْهُمْ

وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ ‏(‏إلى‏)‏ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 100‏]‏‏.‏

وَقَعَ‏:‏ وَجَبَ‏.‏

وفيه‏:‏ أَنَس، عَنْ خَالَتِهِ أُمِّ حَرَامٍ، قَالَتْ‏:‏ نَامَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا قَرِيبًا مِنِّى، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فتَبَسَّم‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث، فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِيًا أَوَّلَ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوِهِمْ قَافِلِينَ فَنَزَلُوا الشَّأْمَ، فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ مصداق حديث أنس فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله‏}‏ الآية‏.‏

فنزلت هذه الآية على مثل ما دل عليه الحديث أن من مات فى سبيل الله فهو شهيد‏.‏

وقد روى ابن وهب، عن عمر بن مالك، عن عبيد الله بن أبى جعفر، عن جعفر بن عبد الله بن الحكم، قال‏:‏ سمعت عقبة بن عامر الجهنى، سمعت رسول الله يقول‏:‏ ‏(‏من صرع عن دابته فمات فهو شهيد‏)‏ وفى حديث أنس أن حكم المنصرف من سبيل الله فى الأجر مثل حكم المتوجه إليه فى خطاه وتقلبه وحركاته، وأن له ثواب المجاهد فى كل ما ينويه ويشق عليه ويتكلفه من نفقة أو غيرها حتى ينصرف إلى بيته، والله أعلم‏.‏

باب مَنْ يُنْكَبُ أَوْ يطعن فِى سَبِيلِ اللَّهِ

فيه‏:‏ أَنَس، بَعَثَ الرسول صلى الله عليه وسلم أَقْوَامًا مِنْ بَنِى سُلَيْمٍ إِلَى بَنِى عَامِرٍ فِى سَبْعِينَ، فَلَمَّا قَدِمُوا، قَالَ لَهُمْ خَالِى‏:‏ أَتَقَدَّمُكُمْ، فَإِنْ أَمَّنُونِى حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَإِلا كُنْتُمْ مِنِّى قَرِيبًا، فَتَقَدَّمَ، فَأَمَّنُوهُ، فَبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عَنِ الرسول صلى الله عليه وسلم إِذْ أَوْمَئُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَطَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ، فَقَالَ‏:‏ اللَّهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ مَالُوا عَلَى بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ، فَقَتَلُوهُمْ، إِلا رَجُلا أَعْرَجَ صَعِدَ الْجَبَلَ- قَالَ هَمَّامٌ‏:‏ فَأُرَاهُ آخَرَ مَعَهُ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَنَّهُمْ قَدْ لَقُوا رَبَّهُمْ، فَرَضِىَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، فَكُنَّا نَقْرَأُ‏:‏ ‏(‏أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا وَأَرْضَانَا ‏(‏ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِى لَحْيَانَ وَبَنِى عُصَيَّةَ الَّذِينَ عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفيه‏:‏ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِى بَعْضِ الْمَشَاهِدِ، فدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ أَنْتِ إِلا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ‏)‏ إنما دعا عليهم صلى الله عليه وسلم فى صلاة الفريضة من أجل غدرهم، وقبيح نكثهم بعد تأمينهم وآنس الله تعالى نبيه بما أنزل عليه من أنه رضى عنهم وأرضاهم‏.‏

ففى هذا من الفقه‏:‏ جواز الدعاء على أهل الغدر والختر وانتهاك المحارم، والإعلان باسمهم والتصريح بذكرهم‏.‏

وقد جاء فى حديث أنس فى باب قول الله‏:‏ ‏(‏ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 169‏]‏ أنه دعا عليهم ثلاثين صباحًا‏.‏

ودل حديث جندب بن سفيان على أن كل ما أصيب به المجاهد فى سبيل الله من نكبة أو عثرة فإن له أجر ذلك على قدر نيته واحتسابه‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هل أنت إلا أصبع دميت، وفى سبيل الله ما لقيت‏)‏‏.‏

فهو رجز موزون، وقد يقع على لسانه مقدار البيت من الشعر أو البيتين من الرجز كقوله‏:‏ ‏(‏أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبد المطلب‏)‏‏.‏

فلو كان هذا شعرًا لكان خلاف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما علمناه الشعر وما ينبغى له‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 69‏]‏ والله يتعالى أن يقع شيء من خبره أو يوجد على خلاف ما أخبر به تعالى، وهذا من الحجاج اللازمة لأهل الإسلام خاصة، ويقال للملحدين‏:‏ إن ما وقع من كلامه من الموزون فى النادر من غير قصد فليس بشعر؛ لأن ذلك غير ممتنع على أحد من العامة والباعة أن يقع له كلام موزون فلا يكن بذلك شعرًا مثل قولهم‏:‏ اسقنى فى الكوز ماء يا غلام، واسرج البغل وجئنى بالطعام‏.‏

وقولهم‏:‏ من يشترى باذنجان‏.‏

وقد يقول العمى منهم‏:‏ وخالق الأنام ورسله الكرام وبيته الحرام والركن والمقام، لا فعلت كذا وكذا‏.‏

وقد علم أن المقسم بذلك من النساء والعامة ليس بشاعر ولا قاصد إلى ذلك، وهذا لا يمكن دفع اتفاق مثله من العامة، فثبت بذلك أن هذا المقدار ليس بشعر وأن الرجز ليس بشعر، ذكر هذا القاضى أبو بكر ابن الطيب وغيره، قال وذكر بعض أهل العراق‏:‏ سمعت غلامًا لصديق لى، وقد كان قد سقى بطنه‏.‏

يقول لغلمان مولاه‏:‏ اذهبوا به إلى الطبيب وقولوا قد اكتوى‏.‏

وهذا الكلام يخرج وزنه عن فاعلات مفاعل فاعلات مفاعل مرتين‏.‏

وقد علمت أن هذا الغلام لا يخطر على باله قط أن يقول بيت شعر ومثل هذا كثير لو تتبع فى كلام الناس‏.‏

باب مَنْ يُجْرَحُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِى سَبِيلِهِ- إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يكلم‏)‏‏:‏ يعنى لا يجرح، والكلوم الجراح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فى سبيل الله‏)‏ المراد به الجهاد، ويدخل فيه بالمعنى كل من جرح فى سبيل بر أو وجه مما أباحه الله تعالى كقتال أهل البغى والخوارج واللصوص، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قتل دون ماله فهو شهيد‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏والله أعلم بمن يكلم فى سبيله‏)‏ فإنه يدل على أنه ليس كل من جرح فى العدو، تكون هذه حاله، عند الله حتى تصح نيته، ويعلم الله من قتله أنه يريد وجهه، ولم يخرج رياء ولا سمعة ولا ابتغاء دنيا يصيبها‏.‏

وفيه‏:‏ أن الشهيد يبعث فى حاله وهيئته التى قبض عليها‏.‏

وقد احتج الطحاوى بهذا الحديث لقول من يرى غسل الشهيد فى المعترك‏.‏

وقد روى عن الرسول أنه قال‏:‏ ‏(‏يبعث الميت فى ثيابه التى قبض فيها‏)‏ أى يعاد خلق ثيابه كما يعاد خلقه‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ‏}‏ ‏[‏التوبة 52‏]‏

وَالْحَرْبُ سِجَالٌ‏.‏

فيه‏:‏ ابْن عَبَّاسٍ، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ‏:‏ سَأَلْتُكَ كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ‏؟‏ فَزَعَمْتَ أَنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ وَدُوَلٌ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا إحدى الحسنيين ‏(‏يريد الفتح والغنيمة، أو الشهادة والجنة‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذا قول جماعة أهل التأويل، واللفظ استفهام والمعنى توبيخ‏.‏

فإن قيل‏:‏ أغفل البخارى أن يذكر تفسير الآية فى الباب، وذكر حديث ابن عباس‏:‏ أن الحرب سجال، فما تعلقه بالآية التى ترجم بها‏؟‏ قيل‏:‏ تعلقه بها صحيح، والآية مصدقة للحديث، والحديث مبين للآية وإذا كانت الحرب سجالا، فذلك إحدى الحسنيين؛ لأنها إن كانت علينا فهى الشهادة، وهى أكبر الحسنيين، وإن كانت لنا فهى الغنيمة، وهى أصغر الحسنيين، فالحديث مطابق لمعنى الآية‏.‏

قال المهلب‏:‏ فكل فتح يقع إلى يوم القيامة أو غنيمة؛ فإنه من إحدى الحسنيين له، وإنما يبتلى الله الأنبياء ليعظم لهم الأجر والمثوبة ولمن معهم، ولئلا يخرق العادة الجارية بين الخلق، ولو أراد الله خرق العادة لأهلك الكفار كلهم بغير حرب، ولثبط أيديهم عن المدافعة حتى يؤسروا أجمعين، ولكن أجرى تعالى الأمور على العوائد ليأجر الأنبياء ومن معهم، ويأتوا يوم القيامة مكلومين شهداء فى سبيل الله ظاهرى الوسيلة والشفاعة، وقد تقدم تفسير الحديث‏:‏ ‏(‏سجال‏)‏ فى كتاب بدء الوحى، والحمد لله‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا‏}‏ ‏[‏الأحزاب 23‏]‏

فيه‏:‏ أَنَس، غَابَ عَمِّى عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنِ أَشْهَدَنِى اللَّهُ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، قَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنِّى أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ- يَعْنِى أَصْحَابَهُ- وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ- يَعْنِى الْمُشْرِكِينَ- ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ ابْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ‏:‏ يَا سَعْدُ، الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ، إِنِّى أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ، قَالَ سَعْدٌ‏:‏ فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ‏:‏ فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ، وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ، وَكُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِى أَشْبَاهِهِ‏:‏ ‏(‏رِجَالٌ صَدَقُوا‏}‏ الآية، الحديث‏.‏

وفيه‏:‏ زَيْدَ، نَسَخْتُ الصُّحُفَ فِى الْمَصَاحِفِ، فَفَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الأحْزَابِ، كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهَا، فَلَمْ أَجِدْهَا إِلا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأنْصَارِىِّ الَّذِى جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهَادَتَهُ بشَهَادَة رَجُلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏رِجَالٌ صَدَقُوا‏}‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه الأخذ بالشدة واستهلاك الإنسان نفسه فى طاعة الله‏.‏

وفيه الوفاء بالعهد لله بإهلاك النفس، ولا يعارض قوله‏:‏ ‏(‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏؛ لأن هؤلاء عاهدوا الله فوفوا بما عاهدوه من العناء فى المشركين وأخذوا فى الشدة بأن باعوا نفوسهم من الله بالجنة كما قال تعالى‏.‏

ألا ترى قوله‏:‏ ‏(‏فما استطعت ما صنع‏)‏ يريد ما استطعت أن أصف ما صنع من كثرة ما أغنى وأبلى فى المشركين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إنى أجد ريح الجنة من قبل أحد‏)‏ يمكن أن يكون على الحقيقة، لأن ريح الجنة يوجد من مسيرة خمسمائة عام، فيجوز أن يشم رائحة طيبة تشهيه الجنة وتحببها إليه، ويمكن أن يكون مجازًا، فيكون المعنى إنى لأعلم أن الجنة فى هذا الموضع الذى يقاتل فيه؛ لأن الجنة فى هذا الموضع تكتسب وتشترى‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏ففقدت آية من الأحزاب، فلم أجدها إلا مع خزيمة‏)‏ فلم يرد أن حفظها قد ذهب عن جميع الناس فلم تكن عندهم؛ لأن زيد بن ثابت قد حفظها‏.‏

وروى أن عمر قال‏:‏ ‏(‏أِشهد لسمعتها من رسول الله‏)‏ وروى أن أبى بن كعب قال مثل ذلك، وعن هلال بن أمية أيضًا، وإنما أمر أبو بكر عند جمع الصحف عمر بن الخطاب وزيدًا بأن يطلبا على ما ينكرانه شهادة رجلين فيشهدان سماع ذلك من فى النبى صلى الله عليه وسلم ليكون ذلك أثبت وأشد فى الاستظهار ومما لا يتسرع أحد إلى دفعه وإنكاره، قاله القاضى أبو بكر بن الطيب، وقد ذكر فى ذلك وجوهًا أخر، هذا أحسنها، سأذكرها فى فضائل القرآن فى باب‏:‏ جمع القرآن، إن شاء الله‏.‏

باب العَمَلٌ الصَالِحٌ قَبْلَ الْقِتَالِ

قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ‏:‏ إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مَرْصُوصٌ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 4‏]‏‏.‏- فيه‏:‏ الْبَرَاءَ، أَتَى النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ‏)‏، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَاتَلَ، فَقُتِلَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عَمِلَ قَلِيلا، وَأُجِرَ كَثِيرًا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى هذا الحديث دليل أن الله يعطى الثواب الجزيل على العمل اليسير تفضلا منه على عباده، فاستحق هذا نعيم الأبد فى الجنة بإسلامه، وإن كان عمله قليلا؛ لأنه اعتقد أنه لو عاش لكان مؤمنًا طول حياته فنفعته نيته، وإن كان قد تقدمها قليل من العمل، وكذلك الكافر إذا مات ساعة كفره يجب عليه التخليد فى النار؛ لأنه انضاف إلى كفره اعتقاده أنه يكون كافرًا طول حياته؛ لأن الأعمال بالنيات‏.‏

باب مَنْ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ

- فيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ- وَهِىَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ- أَتَتِ النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ‏:‏ يَا نَبِىَّ اللَّهِ، أَلا تُحَدِّثُنَا عَنْ حَارِثَةَ- وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ- فَإِنْ كَانَ فِى الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِى الْبُكَاءِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأعْلَى‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا نحو حديث أم حرام إذ سقطت عن دابتها فماتت، فهذا وشبهه مما يستحق به الجنة إذا صحت فيه النية، وأما قوله‏:‏ ‏(‏سهم غرب‏)‏ قال أبو عبيد‏:‏ يقال‏:‏ أصابه سهم غرب‏:‏ إذا كان لا يعلم من رماه‏.‏

وقال ابن السكيت‏:‏ سهم غَرْب وسهم غَربٍ وغَرَبٍ، وقال غيره‏:‏ سهم غربٍ‏.‏

وحكى الخطابى عن أبى زيد قال‏:‏ سهم غرْب ساكنة الراء إذا أتاه من حيث لا يدرى، وسهم غَرَب بفتح الراء إذا رماه فأصاب غيره‏.‏

ابن دريد‏:‏ سهم عائر لا يدرى من رماه‏.‏

باب مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا

فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ‏:‏ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، ولِلذِّكْرِ، ولِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ إذا كان فى أصل النية إعلاء كلمة الله ثم دخل عليها من حب الظهور والمغنم ما دخل فلا يضرها ذلك، ومن قاتل لتكون كلمة الله هى العليا، فخليق أن يحب الظهور بإعلاء كلمة الله وأن يحب الغنى بإعلاء كلمة الله، فهذا لا يضره إن كان عقدًا صحيحًا‏.‏

باب مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ

وقوله‏:‏ ‏(‏مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 120‏]‏‏.‏

فيه‏:‏ أَبُو عَبْسٍ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ‏)‏‏.‏

مصداق هذا الحديث فى آخر الآية التى فى هذا الباب وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يطئون موطئًا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدونيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ‏(‏ففسر صلى الله عليه وسلم ذلك العمل الصالح أنه لا تمس النار من اغبرت قدماه فى سبيل الله، وهذا وعد من النبى صلى الله عليه وسلم والوعد منه منجز، وسبيل الله جميع طاعاته‏.‏

باب مَسْحِ الْغُبَارِ عَنِ الرَّأْسِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ

فيه‏:‏ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ لابنه ولعكرمة‏:‏ ائْتِيَا أَبَا سَعِيدٍ، فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ، فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ وَأَخُوهُ فِى حَائِطٍ لَهُمَا يَسْقِيَانِهِ، فَلَمَّا رَآنَا، جَاءَ فَاحْتَبَى وَجَلَسَ، فَقَالَ‏:‏ كُنَّا نَنْقُلُ لَبِنَ الْمَسْجِدِ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَكَانَ عَمَّارٌ يَنْقُلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَمَسَحَ عَنْ رَأْسِهِ الْغُبَارَ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ أما مسح النبى الغبار عن رأس عمار، فرضى من النبى بفعله وشكرًا له على عزمه فى ذات الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ويح عمار‏)‏ فهى كلمة لا يراد بها فى هذا الموضع وقوع المكروه بعمار، ولكن المراد بها المدح لعمار على صبره وشدته فى ذات الله، كما تقول العرب للشاعر إذا أحسن‏:‏ قاتله الله ما أشعره، غير مريدين إيقاع المكروه به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يدعوهم إلى الله‏)‏ فيريد والله أعلم أهل مكة الذين أخرجوه من دياره وعذبوه فى ذات الله لدعائه لهم إلى الله‏.‏

ولا يمكن أن يتأول هذا الحديث فى المسلمين البتة؛ لأنهم قد دخلوا دعوة الله، وإنما يدعى إلى الله من كان خارجًا من الإسلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ويدعونه إلى النار‏)‏ دليل أيضًا على ذلك؛ لأن المشركين أهل مكة إنما فتنوه وطالبوه أن يرجع إلى دينهم، فهو النار‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن فتنة عمار قد كانت بمكة فى أول الإسلام، وإنما قال‏:‏ يدعوهم بلفظ المستقبل، وهذا لفظ الماضي‏.‏

قيل‏:‏ العرب قد تخبر بالفعل المستقبل عن الماضى إذا عرف المعنى، كما تخبر بالماضى عن المستقبل، فقوله‏:‏ ‏(‏يدعوهم إلى الله‏)‏ بمعنى دعاهم إلى الله؛ لأن محنة عمار كانت بمكة مشهورة، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى ذكرها لما طابقت شدته فى نقله لبنتين شدته فى صبره بمكة على عذاب الله، فضيلة لعمار، وتنبيهًا على ثباته، وقوته فى أمر الله تعالى‏.‏

باب الْغَسْلِ بَعْدَ الْحَرْبِ وَالْغُبَارِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَجَعَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَوَضَعَ السِّلاحَ وَاغْتَسَلَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، وَقَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ الْغُبَارُ، فَقَالَ‏:‏ وَضَعْتَ السِّلاحَ، فَوَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ، فَقَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فَأَيْنَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَاهُنَا، وَأَوْمَأَ إِلَى بَنِى قُرَيْظَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ النَّبِى، صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما اغتسل من الغبار للتنظيف، وإن كان الغبار فى سبيل الله شاهدًا من شواهد الجهاد‏.‏

وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما اغبرت قدما عبد فى سبيل الله فتمسه النار‏)‏ ألا ترى أن جبريل لم يغسله عن نفسه تبركًا به فى سبيل الله‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن النبى لم يخرج إلى حرب إلا بأذن من الله تعالى وفيه دليل أن الملائكة تصحب المجاهدين فى سبيل الله، وأنها فى عونهم ما استقاموا؛ فإن خانوا وغلوا فارقتهم والله أعلم يدل على ذلك الحديث الذى جاء‏:‏ ‏(‏مع كل قاضى ملكان يسددانه ما أقام الحق، فإذا جار تركاه‏)‏ والمجاهد حاكم بأمر الله فى أعوانه وأصحابه‏.‏

باب فَضْلِ قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا‏}‏ الآيات ‏[‏آل عمران 169‏]‏

- فيه‏:‏ أَنَس، دَعَا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ ثَلاثِينَ غَدَاةً، عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ؛ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ أَنَسٌ‏:‏ أُنْزِلَ فِى الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ‏:‏ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا، وَرَضِينَا عَنْهُ‏.‏

وفيه‏:‏ جَابِر، اصْطَبَحَ نَاسٌ الْخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ قُتِلُوا شُهَدَاءَ‏.‏

قِيلَ لِسُفْيَانَ‏:‏ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَيْسَ هَذَا فِيهِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى هذه الآية التى فى الترجمة دليل على أن كل مقتول غدرًا أنه شهيد؛ لأن أصحاب بئر معونة قتلوا غدرًا بهم‏.‏

وأما حياة الشهيد فقد اختلف الناس فى كيفيتها، وأولى ما قيل فيها والله أعلم أن تكون الأرواح ترزق، وكذلك جاء الخبر أن صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنما نسمة المؤمن طائر تعلق فى شجر الجنة‏)‏ يعنى‏:‏ يأكل منها، كذلك فسره أهل اللغة، وحديث تعليق عام، وقد خصصه القرآن بأشياء باشتراط الشهداء‏.‏

وقوله فى حديث جابر‏:‏ ‏(‏ثم قتلوا شهداء‏)‏ يعنى‏:‏ والخمر فى بطونهم؛ فإنما كان هذا قبل نزول تحريمها، فلم يمنعهم ما كان فى علم الله من تحريمها، ولا كونها فى بطونهم من حكم الشهادة، وفضلها؛ لأن التحريم إنما يلزم بالنهى، وما كان قبل النهى فهو معفو عنه‏.‏

باب ظِلِّ الْمَلائِكَةِ عَلَى الشَّهِيدِ

- فيه‏:‏ جَابِر‏:‏ جِىءَ بِأَبِى إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ، وَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ، فَنَهَانِى قَوْمِى، فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ، فَقِيلَ‏:‏ بَنْتُ عَمْرٍو، أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لِمَ تَبْكِى‏؟‏ أَوْ فَلاَ تَبْكِى، مَا زَالَتِ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، حَتَّى رُفِعَ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا من فضل الشهادة وضع الملائكة أجنحتها عليه رحمة له وفيه أن النياحة ليست الشدة فى النهى عنها إلا إذا كان معها شيء من أفعال الجاهلية من شق وخمش ودعوى الجاهلية على ما تقدم فى كتاب الجنائز‏.‏

وفيه أن الشهيد والرجل الصالح ومن يرجى له الخير لا يجب أن يبكى عليه، ألا ترى أن الرسول قال لها‏:‏ ‏(‏لم تبكين‏)‏ فأخبرها بالأمن عليه فى الآخرة وإنما البكاء على من يخشى عليه النار ويشهد لهذا المعنى حديث أم حارثه إذ قالت للنبى صلى الله عليه وسلم ‏(‏أخبرنى بمنزلة ابنى فإن كان فى الجنة صبرت واحتسبت‏)‏‏.‏

باب تَمَنِّى الشهيد أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأرْضِ مِنْ شَىْءٍ، إِلا الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ‏)‏‏.‏

هذا الحديث أجل ما جاء فى فضل الشهادة والحض عليها والترغيب فيها، وإنما يتمنى أن يقتل عشر مرات والله أعلم لعلمه بأن ذلك مما يرضى الله ويقرب منه؛ لأن من بذل نفسه ودمه فى إعزاز دين الله ونصرة دينه ونبيه، فلم تبق غاية وراء ذلك وليس فى أعمال البر ما تبذل فيه النفس غير الجهاد، فلذلك عظم الثواب عليه، والله أعلم‏.‏

باب الْجَنَّةُ تَحْتَ بَارِقَةِ السُّيُوفِ

وَقَالَ الْمُغِيرَةُ‏:‏ أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا، أنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ‏.‏

وقال عُمَرُ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَلَيْسَ قَتْلانَا فِى الْجَنَّةِ وَقَتْلاهُمْ فِى النَّارِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏بَلَى‏)‏‏.‏

فيه‏:‏ ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أنه قد يجوز أن يقطع لقتلى المسلمين كلهم بالجنة؛ لقول عمر‏:‏ ‏(‏أليس قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار‏)‏ ولكن على الجملة وليس يمكن أن يشخص من هذه الجملة واحد فيقال‏:‏ إن هذا فى الجنة إلا بخبر فيه نفسه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والله أعلم بمن يجاهد فى سبيله‏)‏ فنحن نقطع بظاهر هذا الحديث فى الجملة ونكل التفصيل والغائب من النيات إلى الله تعالى لئلا يقطع فى علم الله بغير خبر، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم حين سئل، فقيل له‏:‏ ‏(‏منا من يقاتل للمغنم وليرى مكانه وللدنيا‏)‏ فلما فصل له تبرأ من موضع القطع على الغيب‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى الجنة‏)‏ وهذا القول يقضى على سائر معانى الحديث والمسألة، والترجمة صحيحة‏.‏

وأن من قَتل أو قُتل فى إعلاء كلمة الله فهو فى الجنة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏تحت بارقة السيوف‏)‏ هو من البريق، والبريق معروف‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ يقال‏:‏ أبرق الرجل بسيفه إذا لمع به، ويسمى السيف‏:‏ إبريقا وهو إفعيل من البريق‏.‏

وقال ابن أحمر‏:‏ تقلدت إبريقًا وعلقت جفنه ليهلك حيا ذا زهاء وحامل

باب مَنْ طَلَبَ الْوَلَدَ لِلْجِهَادِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَالَ سُلَيْمَانُ‏:‏ لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ، أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، كُلُّهُنَّ تَأْتِى بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ‏:‏ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ تحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ‏:‏ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى هذا الحديث حض على الولد بنية الجهاد فى سبيل الله، وقد يكون الولد بخلاف ما أمله فيه، فيكون كافرًا، ولكن قد تم له الأجر فى نيته وعمله‏.‏

وفيه أن من قال‏:‏ إن شاء الله‏.‏

وتبرأ من المشيئة لله ولم يعط الخاصة لنفسه فى أعماله، أنه حرى بأن يبلغ أمله ويعطى أمنيته، ألا ترى أن سليمان لما لم يرد المشيئة إلى الله، ولم يستثن ما لله، فمن ذلك حرم أمله، ولو استثنى لبلغ أمله، كما قال صلى الله عليه وسلم، وليس كل من قال قولا ولم يستثن فيه المشيئة فواجب ألا يبلغ أمله بل منهم من يشاء الله إتمام أمله، ومنهم من يشاء ألا يتم أمله بما سبق فى علمه، ولكن هذه التى أخبر عنها الرسول أنها مما لو أستثنى المشيئة لتم أمله فدل هذا على أن الأقدار فى علم الله على ضروب‏.‏

فقد يقدر للإنسان الولد والرزق والمنزلة إن فعل كذا أو قال أو دعا، فإن لم يفعل ولا قال لم يعط ذلك الشيء، وأصل هذا فى قصة يونس صلى الله عليه وسلم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا أنه كان من المسبحين للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون ‏(‏فبان بهذه الآية أن تسبيحه كان سبب خروجه من بطن الحوت، ولو لم يسبح ما خرج منه‏.‏

وفيه أن الاستثناء قد يكون بإثر القول، وإن كان فيه سكوت يسير لم تنقطع به دونه الأفكار الحائلة بين الاستثناء واليمين، وسيأتى ذلك فى موضعه، إن شاء الله‏.‏

باب الشَّجَاعَةِ وَالْجُبْنِ فِى الْحَرْبِ

فيه‏:‏ أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم سَبَقَهُمْ عَلَى فَرَسٍ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَجَدْنَاهُ بَحْرًا‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ‏:‏ بَيْنَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، فَعَلِقَت الأعراب يسألونه حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَعْطُونِى رِدَائِى، لَوْ كَانَ لِى عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُونِى بَخِيلا وَلا كَذُوبًا وَلا جَبَانًا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أن الرئيس قد يشجع فى بعض الأوقات إذا وجد من نفسه قوة وإن كان اللازم له أن يحوط أمر المسلمين بحياطة نفسه، لكن النبى لما رأى الفزع المستولى علم أنه ليس يكاد بما أخبره الله فى قوله‏:‏ ‏(‏والله يعصمك من الناس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ وأنه لا بد أن يتم أمره حتى تمر المرأة من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله؛ فلذلك أمن صلى الله عليه وسلم فزعهم باستبراء الصيحة، وكذلك كل رئيس إذا استولى على قومه الفزع ووجد من نفسه قوة فينبغى له أن يذهب عنهم الفزع باستبرائه نفسه، وفيه استعمال المجاز فى الكلام؛ لقوله فى الفرس‏:‏ ‏(‏إنه بحر‏)‏ فشبه ذلك؛ لأن الجرى منه لا ينقطع كما لا ينقطع ماء البحر، وأول من تكلم بهذا رسول الله، وسأريد فى هذا المعنى فى باب‏:‏ أسم الفرس والحمار، بعد هذا إن شاء الله‏.‏

وفيه استعارة الدواب للحرب وغيره، وفيه ركوب الدابة عُريًا لاستعجال الحركة‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وفى حديث جبير أنه لا بأس للرجل الفاضل أن يخبر عن نفسه بما فيه من الخلال الشريفة عندما يخاف من سوء ظن أهل الجهالة به‏.‏

وفيه أن البخل والجبن والكذب من الخلال المذمومة التى لا تصلح أن تكون فى رؤساء الناس، وأما من كانت فيه خلة منها لم يتخذه المسلمون إمامًا ولا خليفة، وكذلك من كان كذوبًا فلا يتخذ إمامًا فى دين الله؛ لأن الكذب فجور لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الكذب يهدى إلى الفجور‏)‏ ولا يؤمن على وحى الله وسنة رسوله الفجار، وإنما يؤمن عليه أهل العدالة كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أن الإلحاف فى المسألة قد يرد بالقول والعدة كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو أن لى عدد هذه العضاه نعمًا لقسمته بينكم‏)‏ والوعد من النبى فى حكم الإنجاز واجب لقوله‏:‏ ‏(‏ثم لا تجدونى كذوبا‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ الصبر لجهلة الناس وجفاة السؤال وإن ناله فى ذلك أذى‏.‏

وسؤاله رداءه تأنيسًا لهم من الأذى والجفاء عليه والمزاحمة فى الطريق، ثم رد إلحافهم بأن أعلمهم أن ما ملكه مقسوم بينهم وأن وعده منجز لهم، وأن الذى يسألونه من قتالهم وعونهم به ليسوا بالمتقدمين عليه فيه؛ بل هو المقدم عليهم فى القتال وفى كل حال لقوله‏:‏ ‏(‏ولا جبانًا‏)‏ ولم ينكر أحد منهم ما وصف به نفسه لا عترافهم به‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ العضاه من الشجر كل ما له شوك ومن أعرف ذلك الطلح والسيل والسيال والعرفط والسمر، وقال غيره‏:‏ والقتاد‏.‏

باب مَا يُتَعَوَّذُ بِهِ مِنَ الْجُبْنِ

فيه‏:‏ سَعْد، أنهُ كَانَ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَةَ، وَيَقُولُ‏:‏ إِنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ فِى دُبُرَ الصَّلاةِ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَعَذَابِ الْقَبْرِ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَنَس، كَانَ الرسول صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وعَذَابِ الْقَبْرِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ أما استعاذته صلى الله عليه وسلم من الجبن فإنه يؤدى إلى عذاب الآخرة؛ لأنه يفر من قرنه فى الزحف فيدخل تحت وعيد الله لقوله‏:‏ ‏(‏ومن يولهم يومئذ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 16‏]‏ الآية، وربما يفتن فى دينه، فيرتد لجبن أدركه، وخوف على صحته من الأسر والعبودية، وأرذل العمر‏:‏ الهرم والضعف عن أداء الفرائض وعن خدمة نفسه فيما يتنظف به فيكون كلا على أهله مستثقلا بينهم، وفتنة الدنيا أن يبيع الآخرة بما يتعجله فى الدنيا من حال أو مال، وتعوذ من العجز؛ لئلا يعجز عما يلزمه فعله من منافع الدين والدنيا‏.‏

والعجز‏:‏ مختلف فى معناه، أما أهل الكلام فيجعلونه‏:‏ ما لا استطاعة لأحد على ما يعجز عنه؛ لأن الاستطاعة عندهم مع الفعل‏.‏

وأما أهل الفقه فيقولون‏:‏ العجز هو ما يستطيع أن يعمله إذا أراد لأنهم يقولون‏:‏ إن الحج ليس على الفور ولو كان على المهلة عند أهل الكلام لم يصح معناه؛ لأن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل والذين يقولون بالمهلة يجعلون الاستطاعة قبل الفعل، وأما الكسل فهم مجمعون على أنه ضعف النية وإيثار الراحة للبدن على التعب، وإنما أستعيذ منه؛ لأنه يبعد عن الأفعال الصالحة للدنيا والآخرة، وسيأتى هذا الحديث فى كتاب الدعاء ونزيده بيانًا ووجه حاله إن شاء الله‏.‏

باب مَنْ حَدَّثَ بِمَشَاهِدِهِ فِى الْحَرْب

- فيه‏:‏ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ‏:‏ صَحِبْتُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَعْدًا، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأسْوَدِ، وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلا أَنِّى سَمِعْتُ طَلْحَةَ يُحَدِّثُ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إنما لم يحدث هؤلاء عن رسول الله والله أعلم خشية التزيد والنقصان؛ لئلا يدخلون فى معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من تقول على ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار‏)‏ فاحتاطوا على أنفسهم أخذًا بقول عمر‏:‏ ‏(‏أقلوا الحديث عن رسول الله وأنا شريككم‏)‏ وقد تقدم هذا فى كتاب العلم‏.‏

وأما حديث طلحة عن مشاهده يوم أحد، ففيه من الفقه‏:‏ أن للرجل أن يحدث عما تقدم له من العناء فى إظهار الإسلام وإعلاء كلمته، وما نفذ فيه من أعمال البر والموجبات غير النوافل؛ لأنه كان عليهم نصر الرسول وبذل أنفسهم دونه فرضا؛ ليتأسى بذلك متأسٍ ولا يدخل ذلك فى باب الرياء؛ لأن إظهار الفرائض أفضل من سترها ليشاد منار الإسلام وتظهر أعلامه، وكان طلحة من أهل النجدة، وثبات القدم فى الحرب‏.‏

ذكر البخارى عن قيس فى المغازى، قال‏:‏ ‏(‏رأيت يد طلحة شلاء وقى بها الرسول يوم أحد‏)‏ وعن أبى عثمان ‏(‏أنه لم يبق مع النبى صلى الله عليه وسلم غير طلحة وسعد‏)‏ فلهذا حدث طلحة عن مشاهده يوم أحد؛ ليقتدى به ويرغب الناس فى مثل فعله، والله أعلم‏.‏

باب وُجُوبِ النَّفِيرِ وَمَا يَجِبُ مِنَ الْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 41‏]‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏‏.‏

فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ النفير والجهاد، يجبان وجوب فرض ووجوب سنة، فأما من استنفر لعدو غالب ظاهرٍ فالنفير فرض عليه، ومن استنفر لعدو غير غالب ولا قوى على المسلمين فيجب عليه وجوب سنة، من أجل أن طاعة الإمام المستنفر للعدو الغالب قد لزم الجهاد فيه كل أحد مشخص بعينه وأما العدو المقاوم أو المغلوب، فلم يلزم الجهاد فيه لزوم التشخيص لكل إنسان، وما لزم الجماعة فمن انتدب له قام به، ومن قعد عنه أرجو أن يكون فى سعة، ومن ذلك قوله‏:‏ ‏(‏لا هجرة بعد الفتح‏)‏ وذلك أنه كان فى بدو الإسلام فرضًا على كل مسلم أن يهاجر مع الرسول فيقاتل معه حتى تكون كلمة الله هى العليا، فلما فتح الله مكة وكسر شوكة صناديد قريش ودخل الناس فى دين الله أفواجًا نزلت المقاومة من المسلمين و ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ على عدوهم فلم تلزم الناس الهجرة بعد؛ لكثرة المسلمين، وسيأتى تفسير باقى الحديث، ومذاهب العلماء فى قوله‏:‏ ‏(‏لا هجرة بعد الفتح‏)‏ فى آخر كتاب الجهاد فى باب لا هجرة بعد الفتح، إن شاء الله‏.‏

باب الْكَافِرِ يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ ثُمَّ يُسْلِمُ فَيُسَدِّدُ أَوْ يُقْتَلُ

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ يَدْخُلانِ الْجَنَّةَ، يُقَاتِلُ هَذَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَتَيْتُ الرسول صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِخَيْبَرَ بَعْدَ مَا افْتَتَحُوهَا، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَسْهِمْ لِى، فَقَالَ بَعْضُ بَنِى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ‏:‏ لا تُسْهِمْ لَهُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ، فَقَالَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ‏:‏ وَاعَجَبًا لِوَبْرٍ، تَدَلَّى عَلَيْنَا مِنْ قَدُومِ ضَأْنٍ يَنْعَى عَلَىَّ قَتْلَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَىَّ؛ وَلَمْ يُهِنِّى عَلَى يَدَيْهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ فَلا أَدْرِى أَسْهَمَ لَهُ أَوْ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ذكر أبو داود هذا الحديث فى مصنفه قال‏:‏ ‏(‏ولم يسهم له رسول الله‏)‏ وذكر أنه أبان بن سعيد بن العاص، والترجمة صحيحة، ومعناها عند العلماء أن القاتل الأول كان كافرًا، وتوبته إسلامه وقوله‏:‏ ‏(‏يضحك الله إلى رجلين‏)‏ أى‏:‏ يتلقاهما بالرحمة والرضوان، والضحك منه على المجاز؛ لأن الضحك لا يكون منه تعالى على ما يكون من البشر؛ لأنه ليس كمثله شيء‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن الرجل قد يوبخ بما سلف إلا أن يتوب، فلا يوبخ عليه، ولا تثريب، ألا ترى أن أبا هريرة لما ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ سعيد على قتل ابن قوقل كيف رد عليه أقبح الرد، وصارت له عليه الحجة كما صارت لآدم على موسى من أجل أنهما وبخا بعد التوبة من الذنب‏.‏

وفيه‏:‏ أن التوبة تمحو ما سلف قبلها من الذنوب‏:‏ القتل وغيره لقوله‏:‏ ‏(‏أكرمه الله على يدى ولم يهنى على يديه‏)‏ لأن ابن قوقل وجبت له الجنة بقتل ابن سعيد له ولم تجب لابن سعيد النار؛ لأنه تاب وأسلم ويصحح ذلك سكوت الرسول على قوله، ولو كان غير صحيح لما لزمه السكوت؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعث مبينًا للناس‏.‏

وفى حديث أبى هريرة حجة على الكوفيين فى قولهم فى المدد يلحق بالجيش فى أرض الحرب بعد الغنيمة أنهم شركاؤهم فى الغنيمة، وسائر العلماء إنما تجب عندهم الغنيمة لمن شهد الوقعة‏.‏

واحتجوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسهم لأبى هريرة فى هذا الحديث‏.‏

قال الكوفيون‏:‏ لا حجة فى حديث أبى هريرة؛ لأن خيبر صارت حين فتحت دار إسلام وهذا لا شك فيه، قالوا‏:‏ وقد روى حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن عمار بن أبى عمار، عن أبى هريرة قال‏:‏ ‏(‏ما شهدت لرسول الله مغنمًا إلا قسم لى إلا خيبر؛ فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة شهدوها أو لم يشهدوها؛ لأن الله كان وعدهم بها بقوله‏:‏ ‏(‏وأخرى لم تقدروا عليها‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 21‏]‏ واحتجوا بما رواه أبو أسامة، عن بريد بن أبى بردة، عن أبى موسى قال‏:‏ ‏(‏قدمنا على النبى صلى الله عليه وسلم مع جعفر من أرض الحبشة بعد فتح خيبر بثلاث فقسم لنا ولم يقسم لأحد لم يشهد فتحها غيرنا‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وهذا يحتمل أن يكون لأنهم كانوا من أهل المدينة أو يكون استطاب أنفس أهل الغنيمة‏.‏

وعلى قول الطحاوى لا حجة لأصحابه فى حديث أبى موسى، وسيأتى تمام هذا القول فى هذه المسألة فى حديث ابن عمر أن النبى- صلى الله عليه وسلم- أسهم لعثمان يوم بدر فى باب‏:‏ إذا بعث الإمام رسولاً فى حاجة أو أمره بالمقام عليها هل يقسم له، بعد هذا إن شاء الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏واعجبًا لوبر تدلى علينا من قدوم ضأن‏)‏ وقد روى من رأس ضأن، فمن رواه لوبر بفتح الباء فمعناه أنه شبه أبا هريرة بالوبر الذى لا حطب له ولا مقدار؛ لأنه لم يكن لأبى هريرة عشيرة ولا قوم يمتنع بهم ولا يغنى فى قتال ولا لقاء عدو وكان ابن سعيد وأبو هريرة طارئين، ذكر الطبرى أن أبا هريرة وأبانًا قدما على الرسول بخيبر‏.‏

ومن روى الوبر بإسكان الباء فمعناه أنه يشبهه بالوبر وهو دويبة على قدر السنور، عن صاحب العين، فأراد به فى ضعف المنة وقلة الغناء كالنسور فى السباع وإنما سكت النبى صلى الله عليه وسلم عن الإنكار على ابن سعيد؛ لأنه لم يذم أبا هريرة بحد ولا تنقصه فى دين، وإنما تنقصه فى قلة العشيرة والعدد أو بضعف المنة‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏تدلى علينا من قدوم ضأن‏)‏ فإن أبا ذر الهروى، قال‏:‏ ‏(‏ضأن‏)‏ جبل بأرض دوس وهو بلد أبى هريرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏تدلى علينا‏)‏ يعنى‏:‏ انحدر، ولا يخبر بهذا إلا عمن جاء من موضع عال، هذا الأشهر عند العرب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏من قدوم ضأن‏)‏ يحتمل أن يكون قدوم جمع قادم، مثل راكع وركوع وساجد وسجود، ذكر ذلك سيبويه فيكون المعنى تدلى علينا من جملة القوم القادمين، أقام الصفة مقام الموصوف‏.‏

وتكون ‏(‏من‏)‏ فى قوله ‏(‏من قدوم‏)‏ تبيينًا للجنس كقوله‏:‏ ‏(‏لو تدلى علينا من ساكنى ضأن‏)‏ ولا تكون ‏(‏من‏)‏ مرتبطة بالفعل فى قوله، تدليت من الجبل‏.‏

لاستحالة تدليه من قوم‏.‏

ولا يقال تدليت من بنى فلان، ويحتمل أن يكون ‏(‏قدوم‏)‏ مصدر وصف به الفاعلون، ويكون فى الكلام حذف، وتقديره‏:‏ ‏(‏تدلى علينا من ذوى قدوم‏)‏ فحذف الموصوف وأقام المصدر مقامه، كما قالوا‏:‏ رجل صوم ورجل فطر أى‏:‏ ذو صوم وذو فطر، و ‏(‏من‏)‏ على هذا التقدير أيضًا تبيين للجنس كما كانت فى الوجه الأول‏.‏

ويحتمل أن يكون معناه‏:‏ تدلى علينا من مكان قدوم ضأن، ثم حذف المكان وأقام القدوم مكانه، كما قالت العرب‏:‏ ذهب به مذهب وسلك به مسلك، يريد المكان الذى يسلك فيه ويذهب، ويشهد لهذا رواية من روى ‏(‏من رأس ضأن‏)‏‏.‏

وفيه قول آخر‏:‏ يحتمل أن يكون ‏(‏قدوم‏)‏ اسم لمكان من الجبل متقدم منه، ولا يكون مصدرًا ولا جمعًا، ويدل على هذا رواية من روى‏:‏ ‏(‏تدلى علينا من رأس ضأن‏)‏ ويحتمل أن يكون اسمًا لمكان قدوم بفتح القاف دون الضم، لقلة الضم فى هذا البناء فى الأسماء، وكثرة الفتح‏.‏

ويحتمل أن يكون قدوم ضأن بتشديد الدال وفتح القاف لو ساعدته رواية؛ لأنه بناء من أسماء المواضع، وطرف القدوم موضع بالشام‏.‏

باب مَنِ اخْتَارَ الْغَزْوَ عَلَى الصَّوْمِ

فيه‏:‏ أَنَس، كَانَ أَبُو طَلْحَةَ لا يَصُومُ عَلَى عَهْدِ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ الْغَزْوِ، فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ أَرَهُ مُفْطِرًا إِلا يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى‏.‏

قال المهلب‏:‏ كان أبو طلحة فارس رسول الله، وممن له الغناء فى الحرب؛ فلذلك كان يفطر ليتقوى على العدو، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏تقووا لعدوكم بالإفطار‏)‏ وأيضًا فإن المجاهد يكتب له أجر الصائم القائم، وقد مثله صلى الله عليه وسلم بالصائم لا يفطر والقائم لا يفتر، فدل هذا كله على فضل الجهاد على سائر أعمال التطوع، فلما مات رسول الله وكثر الإسلام واشتدت وطأة أهله على عدوهم، ورأى أنه فى سعة عما كان عليه من الجهاد، ورأى أن يأخذ لحظه من الصوم؛ ليدخل يوم القيامة من باب الريان، والله أعلم‏.‏

باب الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ‏:‏ الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ لا تخرج هذه الترجمة من الحديث أصلا‏.‏

وهذا يدل أن البخارى مات ولم يهذب كتابه؛ لأنه لم يذكر الحديث الذى فيه أن الشهداء سبعة سوى القتل فى سبيل الله، وهو حديث رواه مالك، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك، عن عتيك بن الحارث بن عتيك أن جابر بن عتيك، أخبره أن رسول الله جاء يعود عبد الله ابن ثابت فوجده قد غلب فصاح به فلم يجبه‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، وذكر الحديث، وقال فيه رسول الله‏:‏ ‏(‏الشهداء سبعة سوى القتل فى سبيل الله‏:‏ المطعون شهيد، والغرق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحرق شهيد، والذى يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد‏)‏ فالمطعون هو الذى يموت فى الطاعون، وقد قالت عائشة‏:‏ قال النبى صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏فناء أمتى فى الطعن والطاعون‏.‏

قالت‏:‏ أما الطعن فقد عرفناه‏؟‏ فما الطاعون‏؟‏ قال‏:‏ غدة كغدة البعير تخرج فى المراق والآباط، من مات منه مات شهيدًا‏)‏ والمبطون‏:‏ هو ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ وقيل‏:‏ صاحب انخراق البطن بالإسهال‏.‏

وذات الجنب‏:‏ وهى الشوصة‏.‏

وفى بعض الآثار‏:‏ ‏(‏المجنوب شهيد‏)‏ يريد صاحب ذات الجنب، يقال‏:‏ منه رجل جنب بكسر النون إذا كان به ذلك، وأما المرأة تموت بجمع، ففيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ المرأة تموت من الولادة وولدها فى بطنها قد تم خلقه، وقيل‏:‏ إذا ماتت من النفاس فهو شهيد سواء ألقت ولدها وماتت، أو ماتت وهو فى بطنها‏.‏

والقول الثانى‏:‏ هى المرأة تموت عذراء قبل أن تحيض لم يمسها الرجال‏.‏

والأول أشهر فى اللغة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقد أخبر صلى الله عليه وسلم فى غير ما ذكر فى هذه الآثار فى قوم أنهم شهداء فقال‏:‏ ‏(‏من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله ودون دينه‏)‏ وإن كان بنص كتاب الله إنما أتى فيمن قتل فى سبيل الله فمن ألحق النبى صلى الله عليه وسلم ميتته بالشهادة فحاله كحال من قتل فى سبيل الله، والله أعلم‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏

فيه‏:‏ الْبَرَاء، لَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ دَعَا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم زَيْدًا، فَجَاءَ بِكَتِفٍ، فَكَتَبَهَا، وجاء ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَشَكَا ضَرَارَتَهُ، فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ‏}‏‏.‏

فيه‏:‏ زَيْدَ، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم أَمْلَى علىَّ‏:‏ ‏{‏لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ يُمِلُّهَا؛ فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ، وَكَانَ رَجُلا أَعْمَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِى، فَثَقُلَتْ عَلَىَّ حَتَّى خِفْتُ أَنَّ تَرُضَّ فَخِذِى، ثُمَّ سُرِّىَ عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ‏}‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه دليل على أن من حبسه العذر عن الجهاد وغيره من أعمال البر مع نيته فيه فله أجر المجاهد والعامل؛ لأن نص الآية على المفاضلة بين المجاهد والقاعد ثم استثنى من المفضولين أولى الضرر، وإذا استثناهم من المفضولين فقد ألحقهم بالفاضلين، وقد بين النبى صلى الله عليه وسلم هذا المعنى، فقال‏:‏ ‏(‏إن بالمدينة أقوامًا ما سلكنا واديًا، وشعبًا إلا وهم معنا حبسهم العذر‏)‏ وقد جاء عن الرسول فيمن كان يعمل شيئًا من الطاعة ثم حبسه عنه مرض أو غيره أنه يكتب له ما كان يعمل وهو صحيح، وكذلك من نام عن حزبه نومًا غالبًا كتب له أجر حزبه، وكان نومه صدقة عليه، وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ‏(‏أى غير مقطوع بزمانة أو كبر أو ضعف، ففى هذا أن الإنسان يبلغ بنيته أجر العامل إذا كان لا يستطيع العمل الذى ينويه، وسيأتى زيادة فى هذا المعنى فى باب يكتب للمسافر ما كان يعمل فى الإقامة إن شاء الله وفيه اتخاذ الكاتب وتقييد العلم، وفيه قرب الكاتب من مستكتبه حتى تمس ركبته ركبته‏.‏

باب الصَّبْرِ عِنْدَ الْقِتَالِ

فيه‏:‏ ابْن أَبِى أَوْفَى قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ الصبر سبب إلى كل خير، وقد نص الله عليه فى غير موضع من كتابه، فأمر النبى صلى الله عليه وسلم بالصبر عند لقاء العدو رجاء بركته؛ ولئلا يأنس الناس بالكسل والفشل اللذين هما آفة الحرمان فى الدنيا والآخرة، والصبر على مطلوبات الدنيا والآخرة ضمان لإدراكها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فاصبروا‏)‏ معناه‏:‏ الحض والندب؛ لأن الفرض الذى فرض الله على المسلمين عند لقاء العدو إنما هو عند المثلين، فما كان أكثر فإنما هو حض وندب والله الموفق‏.‏

باب التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ

وَقَوْلِهِ اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 65‏]‏‏.‏

فيه‏:‏ أَنَس، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْخَنْدَقِ، فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِى غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْجُوعِ، قَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ‏:‏ نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا قال المهلب‏:‏ فيه دليل أن الحفر فى سبيل الله والتحصين للديار ولسد العورة منها أجر كأجر القتال، والنفقة فيه محسوبة فى نفقات المجاهدين إلى تسعمائة ضعف‏.‏

وفيه استعمال الرجز والشعر إذا كان فيه إقامة النفوس فى الحرب وإثارة الأنفة والعزة‏.‏

وفيه المجاوبة بالشعر على الشعر، وليس هذا الشعر من قول النبى صلى الله عليه وسلم هو من قول عبد الله بن رواحة، ولو كان من لفظ النبى لم يكن بذلك شعرًا ولا ممن ينبغى له الشعر؛ لأنه قد يقع فى تضاعيف كلام العامة كلام موزون ولا يسمى ذلك شعرًا ولا من تكلم به شاعرًا، ولو جاز أن يسمى بهذا المقدار شاعرًا لكان جميع العامة شعراء؛ إذا لا يسلم أحد من أن يقع فى كلامه كلام موزون، وقد تقدم بيان هذا فى باب‏:‏ من ينكب أو يطعن فى سبيل الله‏.‏

وإنما يستحق اسم الشعر من قصد صناعته وعلم السبب والوتد والشطر وجميع معانى الشعر من الزحاف والحزم والقبض وما شاكل ذلك‏.‏

باب حَفْرِ الْخَنْدَقِ

فيه‏:‏ أَنَس، جَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ عَلَى مُتُونِهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وفيه‏:‏ الْبَرَاءِ، رَأَيْتُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَنْقُلُ التُّرَابَ يَوْمَ الأحْزَابِ، وَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ كتفيه‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏‏.‏‏.‏

ويقول‏:‏ ‏(‏اللهم لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه امتهان الإمام نفسه فى التحصين على المسلمين وما يتأسى به الناس ويقتدون به، فيه شرف له وتحريض وتنشيط وإثارة النية والعزم على العمل والطاعة‏.‏

باب مَنْ حَبَسَهُ الْعُذْرُ عَنِ الْغَزْوِ

فيه‏:‏ أَنَس، رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا، وَلا وَادِيًا إِلا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ‏)‏‏.‏

هذا يدل أن من حبسه العذر عن أعمال البر مع نيته فيها أنه يكتب له أجر العامل فيها، كما قال صلى الله عليه وسلم فيمن غلبه النوم عن صلاة الليل أنه يكتب له أجر صلاته، وقد تقدم هذا المعنى فى باب‏:‏ ‏(‏لا يستوى القاعدون من المؤمنين‏}‏‏.‏

باب فَضْلِ الصَّوْمِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ

فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، سَمِعْتُ النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ‏:‏ ‏(‏مَنْ صَامَ يَوْمًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا الحديث يدل أن الصيام فى سائر أعمال البر أفضل إلا أن يخشى الصائم ضعفًا عند اللقاء؛ لأنه قد ثبت عن الرسول أنه قال لأصحابه فى بعض المغازى حين قرب من الملاقاة بأيام يسيرة‏:‏ ‏(‏تقووا لعدوكم‏)‏ فأمرهم بالإفطار؛ لأن نفس الصائم ضعيفة وقد جبل الله الأجسام على أنها لا قوام لها إلا بالغذاء‏.‏

ولهذا المعنى قال النبى صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو‏:‏ ‏(‏أفضل الصوم صوم داود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى‏)‏ فلا يكره الصوم البتة إلا عند اللقاء وخشية الضعف عند القتال؛ لأن الجهاد وقتل المشركين أعظم أجرًا من الصوم لمن فيه قوة‏.‏

باب فَضْلِ النَّفَقَةِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ دَعَاهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ- كُلُّ خَزَنَةِ بَابٍ-‏:‏ أَىْ فُلُ هَلُمَّ‏)‏، قَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ يَقُولُونَ اللَّهُمَ ذَلِكَ الَّذِى لا تَوَى عَلَيْهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنِّى لأرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، قَامَ الرسول صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِى مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأرْضِ- ثُمَّ ذَكَرَ زَهْرَةَ الدُّنْيَا- الحديث إلى قوله‏:‏ ‏(‏فَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ، فَجَعَلَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أنفق زوجين فى سبيل الله دعاه كل خزنة باب‏)‏ فيه فضل الجهاد على سائر الأعمال وأن للمجاهد أجر المصلى والصائم والمتصدق وإن لم يفعل ذلك؛ ألا ترى أن باب الريان هو للصائمين خاصة، وقد اشترط فى هذا الحديث أنه يدعى من كل باب فاستحق ذلك بإنفاق قليل من المال فى سبيل الله، ففى هذا أن ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ إذا أنفق فى سبيل الله‏.‏

أفضل الأعمال‏.‏

إلا أن طلب العلم ينبغى أن يكون أفضل من الجهاد وغيره؛ لأن الجهاد لا يكون إلا بعلم حدوده وما أحل الله منه وحرم، ألا ترى أن المجاهد متصرف بين أمر العالم ونهيه، ففضل عمله كله فى ميزان العالم الآمر له بالمعروف والناهى له عن المنكر والهادى له إلى السبيل، فكما أن أجر المسلمين كلهم مذخور للنبى صلى الله عليه وسلم من أجل تعليمه لهم وهدايته إياهم سبيل العلم، فكذلك يجب أن يكون أجر العالم فيه أجر من عمل بعلمه‏.‏

وفيه دليل أن من دعى إلى أبواب الجنة كلها لم يكن ممن استحق عقوبة فى نار والله أعلم لقول أبى بكر‏:‏ ‏(‏ذلك الذى لا توى عليه‏)‏ أى‏:‏ لا هلاك، فلم ينكره الرسول‏.‏

وفيه القول بالدليل فى أحكام الدنيا والآخرة لاستدلال أبى بكر بالدعاء له من كل باب أنه لا هلاك عليه، ولتصديق الرسول ذلك الاستدلال، وتبشيره لأبى بكر أنه منهم، من أجل أنه أنفق فى سبيل الله كلها أزواجًا كثيرة من كل شيء، وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الصيام فى باب الريان للصائمين، ومر فيه من الكلام ما لم أذكره هاهنا‏.‏

وكذلك تقدم القول فى حديث أبى سعيد فى كتاب الزكاة، وذكر ابن المنذر من حديث جرير بن حازم قال‏:‏ حدثنى بشار بن أبى سيف الجرمى، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن عياض بن غطيف‏:‏ ‏(‏أن أبا عبيدة بن الجراح أخبره عن الرسول أنه قال‏:‏ من أنفق فى سبيل الله فبسبعمائة ضعف، والنفقة على نفسه وأهله بعشر أمثالها‏)‏‏.‏

ومن حديث خريم بن فاتك، روى زائدة قال‏:‏ حدثنا الركين بن ربيع ابن عميلة الفزارى، عن أبيه، عن يسير بن عميلة الفزارى عن خريم، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من أنفق نفقة فى سبيل الله فبسبعمائة ضعف‏)‏‏.‏

وقد جاء أن الذكر وأعمال البر فى سبيل الله أفضل من النفقة‏.‏

فيه من حديث الليث، عن موسى بن أيوب، عن موسى بن حبير، عن معاذ بن أنس الجهنى صاحب النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يضعف الذكر والعمل فى سبيل الله على تضعيف النفقة بسبعمائة ضعف‏)‏ وعن ابن المسيب مثله‏.‏

باب فَضْلِ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا أَوْ خَلَفَهُ بِخَيْرٍ

فيه‏:‏ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بَيْتًا بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنِّى أَرْحَمُهَا، قُتِلَ أَخُوهَا مَعِى‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ أوجب له صلى الله عليه وسلم الفعل مجازًا واتساعًا وإن لم يفعله لوجوب أجره له‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ وفيه من الفقه أن كل من أعان مؤمنًا على عمل بر فللمعين عليه أجر مثل العامل، وإذا أخبر الرسول أن من جهز غازيًا فقد غزا، فكذلك من فطر صائمًا أو قواه على صومه، وكذلك من أعان حاجا أو معتمرًا بما يتقوى به على حجه أو عمرته حتى يأتى ذلك على تمامه فله مثل أجره‏.‏

ومن أعان فإنما يجيء من حقوق الله بنفسه أو بماله حتى يغلبه على الباطل بمعونة فله مثل أجر القائم، ثم كذلك سائر أعمال البر، وإذا كان ذلك بحكم المعونة على أعمال البر فمثله المعونة على معاصى الله وما يكرهه الله، للمعين عليها من الوزر والإثم مثل ما لعاملها، ولذلك نهى الرسول عن بيع السيوف فى الفتنة ولعن عاصر الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، وكذلك سائر أعمال الفجور‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏لم يكن يدخل بيتًا غير بيت أم سليم‏)‏ يعنى‏:‏ من بيوت النساء غير ذوى محارمه؛ فإنه كان يخص أم سليم للعلة التى ذكر، ولأنها كانت أختها أم حرام خالته من الرضاعة‏.‏

وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ وكانت أم حرام أختها تسكن بقباء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏قتل أخوها معي‏)‏ أى‏:‏ قتل فى سبيلى؛ لأنه قتل ببئر معونة، ولم يشهدها الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

باب التَّحَنُّطِ عِنْدَ الْقِتَالِ

فيه‏:‏ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، قَالَ- وَذَكَرَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ- قَالَ‏:‏ أَتَى أَنَسٌ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ، وَقَدْ حَسَرَ عَنْ فَخِذَيْهِ، وَهُوَ يَتَحَنَّطُ، فَقَالَ‏:‏ يَا عَمِّ، مَا يَحْبِسُكَ أَنْ لا تَجِىءَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الآنَ يَا ابْنَ أَخِى، وَجَعَلَ يَتَحَنَّطُ- يَعْنِى مِنَ الْحَنُوطِ- ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ، فَذَكَرَ فِى الْحَدِيثِ انْكِشَافًا مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ‏:‏ هَكَذَا عَنْ وُجُوهِنَا حَتَّى نُضَارِبَ الْقَوْمَ، مَا هَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِئْسَ مَا عَوَّدْتَكُمْ أَقْرَانَكُمْ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه الأخذ بالشدة فى استهلاك النفس وغيرها فى ذات الله، وترك الأخذ بالرخصة لمن قدر عليها؛ لأنها لا يخلو أن تكون الطائفة من المسلمين التى غزت اليمامة أكثر منهم أو أقل، فإن كانوا أكثر فلا يتعين الفرض على أحد بعينه أن يستهلك نفسه فيه، وإن كانوا أقل وهو المعروف فى الأغلب أن لا يغزو جيش أجدًا فى عقر داره إلا وهم أقل من أهل الدار، فإذا كان هكذا فالفرار مباح، وإن تعذر معرفة الأكثر من الفريقين فإن الفار لا يكون عاصيًا إلا باليقين أن عدوهم مثلان فأقل، وما دام الشك، فالفرار مباح للمسلمين‏.‏

وفيه أن التطيب للحرب سنة من أجل مباشرة الملائكة للميت‏.‏

وفيه اليقين بصحة ما هو عليه من الدين، وصحة النية بالاغتباط فى استهلاك نفسه فى طاعة الله‏.‏

وفيه التداعى للقتال؛ فإن أنسًا قال لعمه‏:‏ ما يحبسك ألا تجيء‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏(‏بئس ما عودتكم أقرانكم‏)‏ يعنى‏:‏ العدو، فى تركهم اتباعكم قبلكم حتى اتخذتم الفرار عادة للنجاة، وطلب الراحة من مجالدة الأقران‏.‏